روائع مختارة | روضة الدعاة | تاريخ وحضارة | الماء والحياة.. في حضارة الإسلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > تاريخ وحضارة > الماء والحياة.. في حضارة الإسلام


  الماء والحياة.. في حضارة الإسلام
     عدد مرات المشاهدة: 4459        عدد مرات الإرسال: 0

قد لا نعجب للاهتمام البالغ الذي تستأثر به قضية تآكل الأوزون في طبقات الجو العليا وتزايد درجة الحرارة في المناخ العالمي.

أو ظاهرة "البيت الزجاجي" المترتبة على تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض. فهاتان هما القضيتان الكبريان بين قضايا البيئة في الوقت الحاضر.

ولكننا نعجب أشد العجب لعدم تركيز الاهتمام على قضية أخرى ستصبح عما قريب قضية البيئة الأولى، أعني أزمة الماء.

وهو ما يؤكده كثير من العلماء والخبراء الآن؛ مثل "أسيت بواس" رئيس اتحاد موارد المياه العالمي في ولاية "إلينوى" الأمريكية بالقول:

"الماء ثروة محدودة، وسكان الأرض في تكاثر غير محدود تقريبًا، ولعل اليوم الذي تتقلص فيه تلك الثروة وتشح إلى درجة النضوب، سيكون في أواسط القرن الواحد والعشرين إن لم نقل في أوائله".
 
ويقول إلياس سلامة: "ستتضاعف حاجتنا إلى الماء ضعفين سنة 2020م، وعندها سيصبح الماء لا النفط، هو المورد الأول الذي يتحكم بمصائر العباد في شتى البلاد وبمستقبل منطقة الشرق الأوسط".
 
وقد تناقلت وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام المحلية والدولية، أخبار الجفاف في شرق إفريقيا الذي استفحل في الآونة الأخيرة بعد أن حرمت من الأمطار منذ عدة سنوات؛ مما نجم عنه نفوق الحيوانات وهي المصدر الرئيسي لغذاء الإنسان.

ثم موت الآلاف من البشر حيث لم يجدوا ما يقيم أودهم، وهاجر العديد من الآلاف إلى المناطق المجاورة؛ بحثًا عن الماء مصدر الحياة.
 
وما زالت المشاكل المترتبة على نقصه تتفاقم؛ مما يجعلنا ندرك مدى أهمية الماء بالنسبة للحياة عامة وحياة الإنسان على وجه الخصوص.

ولذلك يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
 
الماء مصدر الحياة
:

وقال المفسرون: إن ما تعنيه هذه الآية الكريمة، هو أن الماء سبب حياة كل شيء حي في الأرض.

وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون المهم في تركيب مادة الخلية، وهو وحدة البناء في كل كائن حي، نباتًا كان أم حيوانًا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99].

والماء هو بيئة كثير من المخلوقات والكائنات الحية: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14].

أي جعل مياهه صالحة لحياة الأحياء البحرية التي يتغذى عليها الإنسان. ويقول سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96].

والمقصود بالبحر في هذه الآية: كل ماء يوجد فيه صيد بحري، وإن كان نهرًا أو غديرًا.
 
وقد وردت كلمة الماء في القرآن ثلاثًا وستين مرة، وورد معناها في مواضع شتى: الغيث، والمطر، والبحار، والأنهار، وغير ذلك لأهميته القصوى.
 
وغالب ورودها بمعنى "النعمة"، وكونه ضرورة للحياة والأحياء والتي لا تقوم الحياة إلا به، تخضر الأرض بعد أن كانت جرزًا، وتحيا بعد همود وخشوع: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].

وهو قوام الحياة؛ لأنه يخرج مكنونات الأرض مما يتغذى عليه الحيوان والإنسان لتحقيق خلافة البشر على الأرض كما أرادها الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10، 11].

وهو قوام الحياة؛ لأنه أصل كل دابة: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]. وهي كلها مسخرة لخدمة الإنسان وغذائه وكسائه وترحاله.
 
ولما كان للماء هذه الأهمية القصوى، فقد نبه الله-سبحانه وتعالى- كثيرًا على معرفة هذه النعمة وغيرها، وأمر بشكر صاحبها فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68-70].
 
كما يتحدى القادرُ عبادَه البشرَ حتى لا يغتروا بعلمهم فيضلوا السبيل، فيقول عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].

وإذا استطاع الإنسان أن يتحكم في وقت إنزال المطر ومكانه، فلينظر أولًا من أين جاء السحاب الذي يفجره، فهو لم ينشئه من عدم وإنما أنشأه الله سبحانه وتعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12].

ولما كانت للماء هذه المنزلة الكبرى، كان من الطبيعي أن تتوقف عجلة الحياة عن الدوران إذا نضب الماء أو ندر؛ ولهذا تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية في الحث على المحافظة على موارد المياه، وعلى حماية الماء من كل العوامل التي تسبِّب فساده وتلوثه.
 
النهي عن الإسراف في الماء:

كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنى والقدوة المثلى في مجال المحافظة على الماء من الضياع هدرًا، فقد أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمدِّ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد).
 
والرسول صلى الله عليه وسلم أول من دعا الناس إلى عدم الإسراف في استهلاك الماء فقال: "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة"[1].

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراف في استخدام الماء في أغراض الوضوء أو الاغتسال، فقد روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ.

فقال صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الإسراف؟" فقال رضي الله عنه: أفي الوضوء إسراف؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم، وإن كنت على نهر جارٍ"[2].

ولذلك كان يقال: من قلة فقه الرجل ولوعه بالماء.
 
وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه على نفسه وعلى أهل بيته؛ فعن عبد الله بن زيد-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد.

وقد روي عن عائشة-رضي الله عنها- أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك.
 
وروي أن قومًا سألوا جابرًا عن الغسل فقال: يكفيك صاع. فقال رجل: ما يكفي. فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى شعرًا منك وخير منك؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم[3].
 
وتوضح لنا كتب الفقه اهتمام المسلمين القدامى بعدم الإسراف في استخدام الماء في الوضوء والاغتسال.

وإذا كان الحرص على عدم الإسراف في استعمال الماء في الوضوء والاغتسال شديدًا، فإنه فيما عدا ذلك يجب أن يكون أشد.
 
وقد انتهج الخلفاء الراشدون نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا على منواله، فاهتموا بمصادر المياه وعملوا على تخزينها والمحافظة عليها لحين الحاجة إليها، كما اعتنوا بترشيد استخدام الماء.

ولذلك عندما فتح المسلمون الشام والعراق ومصر، اتجهوا إلى تحسين أحوال هذه البلاد، وبخاصة فيما يتعلق بالزراعة واستغلال المياه، فبنوا السدود وأقاموا الجسور وشقوا القنوات والتُّرَع.
 
وتذكر لنا كتب التاريخ الإسلامي أن عمرو بن العاص لمّا فتح مصر، وفي أثناء ولايته عليها، استخدم نحو مائة ألف عامل في إصلاح طرق الري في مصر صيفًا وشتاءً.
 
ولقد استمر اهتمام ولاة الأمور في دولة الإسلام، بالمحافظة على توفير الماء اللازم لكل قطعة من الأرض تصلح للزراعة، وقد بلغت الدولة العباسية في ذلك شأنًا عظيمًا.

ويشير كل من اليعقوبي في كتاب (البلدان) وياقوت الحموي في (معجم البلدان)، إلى أن الخلفاء العباسيين كانوا يهتمون شخصيًّا بالعمل على تيسير الري حتى يتمكن السكان من زراعة الأرض دون جهد ومشقة، ويتمثل ذلك في شق الترع وإقامة المصارف وتشييد القناطر.
 
ويذكر هذان المؤرخان أن الخليفة "المنصور" وضع تخطيطًا علميًّا لاستغلال مياه نهر دجلة؛ بأن أمر بشق عدد من الجداول والترع تستمد مياهها منه لتيسير ري الأراضي القريبة منه، مثل قناة "جيل".

كما أحسن استغلال نهر الفرات-على الرغم من قلة مياهه- بإقامة قناة تأخذ من "كرخاريا" أحد روافد الفرات، تجري في عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالآجر من أعلاها.

وتنفذ في أكثر شوارع بغداد صيفًا وشتاءً، وصممت بحيث لا ينقطع ماؤها في أي وقت من الأوقات. وفي عهد الخلفاء العباسيين رشحت المستنقعات بنظام دقيق.
 
وتحدث ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) عن الجهود التي بذلت لوقف زحف الكثبان الرملية على قنوات الماء في أفغانستان..

فقد أشار إلى أن تلك البلاد سبخة مفككة تغطيها الرمال والكثبان الهلالية؛ ولذلك عمل السكان الحيل حتى حولوا مجرى الرياح بسدود أقاموها لهذا الغرض.
 
وقد وعى علماء المسلمين الأخطار التي يمكن أن تترتب على زيادة مستوى مياه الري في الأراضي الزراعية، فضلًا عما يعنيه ذلك من ضياع هذه المياه هدرًا. وقد قام بعضهم بتصميم تقنيات هندسية للتحكم في منسوب مياه الري.

وفي الكتاب المسمى "حيل بني موسى" نجد إشارة إلى اختراع ميكانيكي طريف لـ"أحمد بن موسى"-أحد أعلام المسلمين في علم الحيل (الميكانيكا)- ويتمثل هذا الاختراع في آلة تثبت في الحقول وتصدر أصواتًا خاصة كلما ارتفع منسوب الماء في الحقول؛ لئلاّ تفقد مياه الري دون فائدة. ويبدو أن هذا الاختراع قد طبق في بغداد إبان القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.
 
المياه لجميع البشر: مبدأ إسلامي:

وكذلك اهتم المسلمون بحل المشكلات التي تنجم عن استخدام المياه في الري، كما اهتم العلماء والفقهاء بدراسة كل القضايا التي تتعلق بالنزاع الذي يحدث بين المنتفعين بالمياه..

وقد تناول الأئمة الأربعة هذه القضايا في كتبهم ودراساتهم ورسائلهم، ولم يتركوا من هذه القضايا شيئًا دون أن يتناولوه بالفحص والدرس.
 
من ذلك ما رواه الإمام مالك في كتابه الشهير "الموطأ" عن الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ".
 
وما رواه مالك من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع فضل بئر". والمعنى أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره.

ولا يمكن لأصحاب المواشي رعيه إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر؛ لكيلا يتضرروا بالعطش، فيلتزم منعهم الماء منعهم الرعي.
 
كما جعلت الشريعة الإسلامية حق الانتفاع بالماء، مكفولًا للجميع بلا احتكار ولا إفساد ولا تعطيل، فهو حق شائع بين جميع البشر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار"[4].

وهذا يعني أن مصادر الماء لا يجوز لأحد أن يحتكرها لنفسه أو يمنعها عن الآخرين، فهي ملكية عامة للجميع.

والملكية العامة تستدعي المحافظة عليها، وولي أمر المسلمين مسئول عن ذلك، ومسئول عن تنظيم استفادة جميع المسلمين من هذه الملكية.
 
[1] رواه ابن ماجه.
[2] رواه ابن ماجه.
[3] متفق عليه.
[4] رواه ابن ماجه.

الكاتب: د. بركات محمد مراد

المصدر: مجلة حراء